من بين صرخات الألم الصاخب المُر بطعم عشرات العقاقير الكابحة للشعور بالألم التي يلتهمها أخرى ثلاجة الأموات الأحياء في عيادة سجون الرملة. أنظر بعينين مليئتين بالفراغ عبر نافذة الضياع الخاسر، ثم أجلس على سجادة الأمل المقعد كهؤلاء الموتى الأحياء من حولي الذين أقعدتهم رصاصات الغدر الصهيوني الغاشم خلال مسيرة بحثهم عن وطنهم المغتصب.
أهمس في أذن الشمس المتسللة خلسة إلى ليلهم الأليم لتغسل القبح الصهيوني عن جدران زنازينهم المسماة مجازاً عيادة سجن الرملة، يا شمس يا لقمة العاشقين التواقين للحظة، يستحمون فيها بدفئك، من أين لك بهذه الشجاعة، لتتسلى إلى صقيع ثلاجات أمواتنا الأحياء؟ وهل قليلاً من الدفء سُعيد الحياة لجثث هامدة باتت تبحث في زحمة الموت هذه عن حصتها من الموت فلا تجده.. ثم أحدق عن يميني، فأرى شقيق روحي الجريح الأسير: خالد وعن شمالي الأسير الجريح: منصور موقده اللذين أقعدهما رصاص الصهاينة الحاقد على كراسي الشرف الأبدي الثابت. وما أدراكم بهؤلاء المقاتلين الأشداء الذين أرعبوا دولة الفاشية الصهيونية الحاقدة ومستوطنيهم الجبناء.
وليس من فراغ أن أطلق على خالد الشاويش لقب صياد المستوطنين وصائد حاخامهم الأكبر -كهانا الابن- في عملية فدائية هزت عروش منظومة الأمن الصهيونية وغيرها من العمليات الفدائية النوعية التي نفذها خالد ضد قطعان المستوطنين إلى أن تعرض لمحاولة اغتيال جبانة نجا منها بأعجوبة، وظل مطارَدا لمدة سبع سنوات وهو على كرسيه المتحرك إلى أن تمت محاصرته في إحدى ضواحي رام الله من قبل الوحدات الخاصة في عام 2007، ومنذ ذاك وهو يقبع فيما يُسمى عيادة سجن الرملة مع جراحة الأليمة وإصاباته البليغة على كرسيه المتحرك بعد أن تسببت له إصاباته خلال عملية الاغتيال الفاشلة بالشلل النصفي.
من لا يعرف هؤلاء الأبطال أظنه لا يعرف شيئا عن عذابات فلسطين، فمنصور موقده يقبع في هذا المكان منذ عشرين عاما مع حكمه المؤبد وخالد الشاويش منذ خمسة عشر عاما مع أحكامه المؤبدة العشرة.
لقد حالفني الحظ أخيرا بزيارة شقيقي خالد داخل ثلاجات الموتى والأحياء في سجن الرملة وها أنا الآن أشارك خالد ومنصور ومن معهم ولو لعدة أيام وجيزة برودة ثلاجات الموت ورطوبة وعفن المكان المحتجزين فيه هنا، أجلس على مقربة من “أبراشهم الحديدية” وأراقب شبح الموت وهو فاغرٌ فاه حقده التلمودي محدقٌ بهم عاضٌّ على نواجذه ندماً لأنه أجل اقتناص حياة أحدهم إلى الآن. وتارة أخرى أراه يتراقص غبطة شامتاً وساخراً من عجزهم، آخذا وضعية الانقضاض على أحدهم، فاقترب منه زاجراً إياه، لعلي أؤخر لساعة أو ليوم شبح الموت المخيم فوق رؤوسهم الذي يتوثب لاقتناص حياة أحدهم المجازية، فاسحب شبح الموت من ذيله بقوة التراتيل والأدعية والصلوات، على حين هو يُقاوم ويتسمر في مكانه غارزاً أنيابه البربرية بجسد خالد هذه المرة. وفي حين أنا أحاول وأحاول مراراً وتكراراً زجره لإبعاده عن خالج يفرُ معلناً إصراره على العودة لإكمال بهلوانياته على جسدٍ يختاره مسرحاً لملهاته المسلية، يتنفس خالد الصعداء شاهقاً بأنفاسه العميقة كغريق خرج للتو من تحت المياه.. أعانقه مسبلاً بيدي على رأسه محاولا مواساته وإقناعه بأن شبح الموت قد ارتحل إلى أجل غير مسمى، فأجدُه وقد هده الوجع وأنهكته النوبات المتتالية من الرجفة الملازمة له على مدار الخمسة عشر عاما وذلك بسبب ضغط شظايا الرصاص المنتشرة في كل أنحاء جسده، ولا سيما تلك المتمركزة حول النخاع الشوكي حيث ترفض إدارة السجن إجراء عمليات جراحية له لإزالة تلك الشظايا التي يصفها خالد بالثعبان الذي يتحرك في كل أنحاء جسده رويداً رويدا وتبدأ الجرعة المحددة الكابحة للشعور بالألم التي ألقموها إياه وتأخذ مفعولها بصعوبة، فأغمض عينيه منهكا بعد صراع دامٍ أكثر من ساعة ونصف من النوبة الاعتيادية -هذا الألم المتكرر عدة مرات في اليوم الواحد، يغمض عينيه وأبقى إلى جانبه أمسك بيدين مكبلتين فوق جراحة الوحشية، هامساً بأذنه: نم يا الروح ثم أيها الموشح بالحزن.. وبالألم.. وبالاغتراب..
ثم أيها النصف ميت ونصف حي، فلعلك بعد نوبة أو نوبتين تستطيع أن تروض وجعك العنيد، ولعلك بعد خيبة أو خيبتين تقدر على تطويع أحلامك الشقية المكابرة أو تقدر بعد حياتك المجازية هذه أن تعود من رحلة القيامة مكللاً بالغاز والبارود، كما عاد ميسرة أبو حمدية- وسامي أبو دياك- وداود الخطيب- وبسام السايح– وكمال أبو وعر وغيره من شهداء الحركة الوطنية الأسيرة الذين عايشوك هذا المسلخ البشري الذي لا يخرج منه إلا الشهداء إلى مثواهم ما قبل الأخير في مقابر الأرض. نم يا صديق الفجر من الفجر إلى الفجر وتلحق عبادة ألمك الملتاع متصاعدا إلى الأفق البعيد على سلالم الشوق والتوق لإغماضه عين طبيعية خالية من المسكات وعقاقير كوابح الشعور بالألم، فرُبّ نجمة بيضاء على خيط قلبك الحزين تدفعك إلى غيبوبة الوهم لتسمع ابتهالات الفجر، فجر حريتك وهي تزفك إلى الشمس حراً تعانق حياتك في فرحة تؤجلها سلاسل السجن حتى ينبري الفجر داخل هذا المكان الذي أصبح فيه مداعبة شبح الموت لدى هؤلاء أمراً اعتياديا، حيث هنا أصبح الموت المتكرر وجبتهم اليومية التي لا مفر منها ومن تناولها على جرعات متعددة كل صباح ومساء، أما مشهد مداعبة الأحشاء المتدلية من جسد منصور مرقده الذي غربلة رصاص الصهاينة الفاشيون، فهو مشهد تقشعر له الأبدان، فمنصور مرقده الذي يحتاج لأن يحمل أحشائه المتدلية من بطنه وبقايا معدته البلاستيكية التي زرعوها له بعد استئصال معدته التي فتكت بها الأعيرة النارية لحظة إصابته، تراه مرة كلما أراد الانتقال من كرسيه المتحرك للصعود إلى برشه أو النزول عنه يمسك بأحشائه المتدلية إلى فخذيه بيد وبالأخرى يمسك بأطراف برشه، أما المكان المحتجزون فيه فهو مكان تبعث منه روائح الموت المكدس فوق الأبراش ورائحة الأشلاء التي ما زالت تنزف دمًا بعد بترها للتو، الجدران السوداء التي يغطيها الغبار تماما كبرش خالد الذي ينام عليه منذ خمسة عشر عاما، أردت أن أحركه من مكانه قليلا باتجاه النافذة الضيقة لتهويته، لأكتشف سماكه الغبار والأوساخ التي تغطيه من كل جانب في مشهد أشبه بأدوات الأثاث التي يتم تخزينها لسنوات طويلة داخل مخازن قديمة لا تدخلها الشمس.
إدارة هذا المسلخ هنا لا تسمح بتواجد أسرى أصحاء ليقوموا على خدمة هؤلاء الأسرى ذوي الاحتياجات الخاصة الذين لا يستطيعون التحرك أو القيام بأعمال النظافة أو حتى الاستحمام بدون مساعدة أشخاص آخرين، لذلك ستجد نفسك أينما تحركت هنا تشتم رائحة الموت الكريهة كأنك بداخل ثلاجة للأموات.
لقد أمضيت إلى الآن أربعة أيام في هذا المسلخ بجوار هؤلاء العمالقة الحقيقيين في بطولاتهم وصبرهم الأسطوري. ولست أذكر عدد المرات التي دخلت بها إلى دورة المياه خلسة لأستفرغ كل ما استطعت أن أجبر نفسي على تناوله من طعام بسبب هذه الروائح الكريهة التي لم تُجدِ معها كل عمليات التنظيف التي قمت بها نفعاً. إنه مسلسلٌ من الرعب.